كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال ابن بكير من علمائنا: قوله سبحانه: {مُتَعَمِّدًا} لم يرد به التجاوز عن الخطأ، وإنما أراد {متعمدًا} ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدًا كفارة، وأن الصيد فيه كفّارة، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ.
والله أعلم.
الحادية عشرة فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حُكم عليه كلما قتله في قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ لقول الله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرمًا فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له.
وروي عن ابن عباس قال: لا يحكم عليه مرتين في الإسلام، ولا يُحكم عليه إلا مرة واحدة، فإن عاد ثانية فلا يُحكم عليه، ويقال له: ينتقم الله منك؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ}.
وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشُرَيْح.
ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تَمَادي التحريم في الإحرام، وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام.
الثانية عشرة قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} فيه أربع قراءات؛ {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} برفع جزاء وتنوينه، و{مِثْلُ} على الصفة.
والخبر مضمر، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النَّعم.
وهذه القراءة تقتضي أن يكون المِثل هو الجزاء بعينه.
و{جَزَاءُ} بالرفع غير منون و{مِثْلِ} بالإضافة أي فعليه جزاءُ مثل ما قتل، و{مثل} مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك، وأنت تقصد أنا أكرمك.
ونظير هذا قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] التقدير كمن هو في الظلمات، وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] أي ليس كهو شيء.
وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل؛ إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه.
وقال أبو علي: إنما يجب عليه جزاء المقتول، لا جزاء مثل المقتول، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول.
وهو قول الشافعي على ما يأتي.
وقوله: {مِنَ النَّعَمِ} صفة لجزاء على القراءتين جميعًا.
وقرأ الحسن {مِن النَّعْمِ} بإسكان العين وهي لغة.
وقرأ عبد الرحمن {فَجَزَاءٌ} بالرفع والتنوين {مِثْلَ} بالنصب؛ قال أبو الفتح: {مِثْلَ} منصوبة بنفس الجزاء؛ والمعنى أن يجزى مثل ما قتل.
وقرأ ابن مسعود والأعمش {فجزاؤه مِثل} بإظهار «هاء»؛ ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل.
الثالثة عشرة الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى.
وفي «المدونة»: من اصطاد طائرًا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نَسَل ريشه فطار، قال: لا جزاء عليه.
قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئًا من أعضائه وسلِمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه.
وقيل: عليه من الجزاء بقدر ما نقصه.
ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه.
ولو زَمِن الصيد ولم يلحق بالصيد، أو تركه مَحُوفًا عليه فعليه جزاؤه كاملًا.
الرابعة عشرة ما يُجزى من الصيد شيئان: دوابٌ وطيرٌ فيُجزَى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصّورة، ففي النّعامة بَدنَة، وفي حمار الوحش وبقرة الوحش بقرة، وفي الظبي شاة؛ وبه قال الشافعي.
وأقل ما يَجزى عند مالك ما استيسر من الهدي وكان أضحية؛ وذلك كالجَذَع من الضأن والثنيّ مما سواه، وما لم يبلغ جزاؤه ذلك ففيه إطعام أو صيام.
وفي الحمام كله قيمته إلا حمام مكة؛ فإن في الحمامة منه شاة اتباعا للسّلف في ذلك.
والدُّبْسي والفَوَاخِت والقُمْريّ وذوات الأطواق كلّه حمام.
وحكى ابن عبد الحَكَمْ عن مالك أن في حمام مكة وفراخها شاة؛ قال: وكذلك حمام الحرم؛ قال: وفي حمام الحِلّ حكومة.
وقال أبو حنيفة: إنما يعتبر المثل في القيمة دون الخِلْقة، فيقوم الصيد دراهم في المكان الذي قتله فيه، أو في أقرب موضع إليه إن كان لا يباع الصيد في موضع قتله؛ فيشتري بتلك القيمة هديا إن شاء، أو يشتري بها طعامًا ويُطْعم المساكين كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر.
وأما الشافعي فإنه يرى المثل من النعم ثم يقوِّم المثل كما في المتلفات يقوّم المثل، وتؤخذ قيمة المثل كقيمة الشيء فإن المثل هو الأصل في الوجوب؛ وهذا بيّن وعليه تخرج قراءة الإضافة {فَجَزَاءُ مِثْلِ}.
احتج أبو حنيفة فقال: لو كان الشبه من طريق الخلقة معتبرًا.
في النّعامة بَدَنة، وفي الحمار بقرة، وفي الظبي شاة، لما أوقفه على عَدلين يحكمان به؛ لأن ذلك قد علم فلا يحتاج إلى الإرتياء والنظر؛ وإنما يفتقر إلى العدول والنظر ما تشكل الحال فيه، ويضطرب وجه النظر عليه.
ودليلنا عليه قول الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} الآية.
فالمثل يقتضي بظاهره المثل الخِلْقي الصّوري دون المعنى؛ ثم قال: {مِنَ النعم} فبين جنس المثل؛ ثم قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} وهذا ضمير راجع إلى مثل من النعم؛ لأنه لم يتقدم ذكر لسواه يرجع الضمير عليه، ثم قال: {هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} والذي يتصور فيه الهَدْي مثل المقتول من النَّعم، فأما القيمة فلا يتصوّر أن تكون هديا، ولا جرى لها ذكر في نفس الآية، فصح ما ذكرناه.
والحمد لله.
وقولهم: لو كان الشبه معتبرًا لما أوقفه على عَدلين؛ فالجواب أن اعتبار العدلين إنما وجب للنظر في حال الصيد من صغر وكبر، وما لا جنس له مما له جنس، وإلحاق ما لم يقع عليه نص بما وقع عليه النص.
الخامسة عشرة من أحرم من مكة فأغلق باب بيته على فراخ حمام فماتت فعليه في كل فرخ شاة.
قال مالك: وفي صغار الصيد مثل ما في كباره؛ وهو قول عطاء.
ولا يُفدَى عند مالك شيء بعنَاقٍ ولا جَفْرة؛ قال مالك.
وذلك مثل الدية، الصغير والكبير فيها سواءٌ.
وفي الضّب عنده واليَرْبُوع قيمتهما طعامًا.
ومن أهل المدينة من يخالفه في صغار الصيد، وفي اعتبار الجَذَع والثَّني، ويقول بقول عمر: في الأرنب عَنَاق وفي اليَرْبوع جَفْرة؛ رواه مالك موقوفًا.
وروى أبو الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش وفي الظبي شاة وفي الأرنب عَنَاق وفي اليَرْبوع جَفْرة» قال: والجَفرة التي قد ارتعت.
وفي طريق آخر قلت لأبي الزبير: وما الجَفْرة؟ قال: التي قد فُطِمَت ورَعَت.
خرجه الدَّارَقُطْنيّ.
وقال الشافعي: في النعامة بَدَنة، وفي فرخها فَصِيل، وفي حمار الوحش بقرة، وفي سَخْلهِ عجل؛ لأن الله تعالى حكم بالمِثلية في الخلقة، والصغر والكبر متفاوتان فيجب اعتبار الصغير فيه والكبير كسائر المتلفَات.
قال ابن العربيّ: وهذا صحيح وهو اختيار علمائنا؛ قالوا: ولو كان الصيد أعور أو أعرج أو كسِيرًا لكان المثل على صفته لتتحقق المِثلية، فلا يلزم المتلِف فوق ما أتلف.
ودليلنا قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} ولم يفصل بين صغير وكبير.
وقوله: {هَدْيًا} يقتضي ما يتناوله اسم الهدي لحقّ الإطلاق.
وذلك يقتضي الهدي التام.
والله أعلم.
السادسة عشرة في بيض النعامة عُشْر ثمن البَدَنة عند مالك.
وفي بيض الحمامة المكية عنده عُشْر ثمن الشاة.
قال ابن القاسم: وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ بعد الكسر؛ فإن استهل فعليه الجزاء كاملًا كجزاء الكبير من ذلك الطير.
قال ابن المواز: بحكومة عَدلين.
وأكثر العلماء يرون في بيض كل طائر القيمة.
روى عِكرمة عن ابن عباس عن كعب بن عُجْرَة: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرِم بقدر ثمنه؛ خرجه الدَّارَقُطْنيّ.
وروى عن أبي هُريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في كل بيضة نعام صيام يوم أو إطعام مسكين».
السابعة عشرة وأما ما لا مثل له كالعصافير والفِيلة فقيمة لحمه أو عَدله من الطعام، دون ما يراد له من الأغراض؛ لأن المراعَى فيما له مثلٌ وجوبُ مثله، فإن عُدم المثل فالقيمة قائمة مقامه كالغصب وغيره.
ولأن الناس قائلان أي على مذهبين معتبر للقيمة في جميع الصيد؛ ومقتصر بها على ما لا مثل له من النَّعم؛ فقد تضمن ذلك الإجماع على اعتبار القيمة فيما لا مثل له.
وأما الفيل فقيل: فيه بَدَنة من الهجان العظام التي لها سنامان؛ وهي بيض خراسانية، فإذا لم يوجد شيء من هذه الإبل فينظر إلى قيمته طعامًا، فيكون عليه ذلك؛ والعمل فيه أن يجعل الفيل في مَرْكب، وينظر إلى منتهى ما ينزل المركَب في الماء، ثم يخرج الفيل ويجعل في المركب طعام حتى ينزل إلى الحد الذي نزل والفيل فيه، وهذا عَدْله من الطعام.
وأما أن ينظر إلى قيمته فهو يكون له ثمن عظيم لأجل عظامه وأنيابه فيكثر الطعام وذلك ضرر.
الثامنة عشرة قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} روى مالك عن عبد الملك ابن قُرَيْب عن محمد بن سيرين أن رجلًا جاء إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أجريت أنا وصاحب لي فرسين نستبق إلى ثَغْرة ثَنِيّة، فأصبنا ظبيًا ونحن محرمان فماذا ترى؟ فقال عمر لرجل إلى جنبه: تعال حتى أحكم أنا وأنت؛ فحكما عليه بعنز؛ فولى الرجل وهو يقول: هذا أمير المؤمنين لا يستطيع أن يحكم في ظبي حتى دعا رجلًا يحكم معه، فسمع عمر بن الخطاب قول الرجل فدعاه فسأله؛ هل تقرأ سورة «المائدة»؟ فقال: لا؛ قال: هل تعرف الرجل الذي حكم معي؟ فقال: لا؛ فقال عمر رضي الله عنه: لو أخبرتني أنك تقرأ سورة «المائدة» لأوجعتك ضربًا، ثم قال: إن الله سبحانه يقول في كتابه {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكعبة} وهذا عبد الرحمن بن عوف.
التاسعة عشرة إذا اتفق الحَكَمان لزم الحكم؛ وبه قال الحسن والشافعي.
وإن اختلفا نظر في غيرهما.
وقال محمد بن المواز: لا يأخذ بأرفع من قوليْهما؛ لأنه عمل بغير تحكيم.
وكذلك لا ينتقل عن المِثل الخِلْقي إذا حكما به إلى الطعام؛ لأنه أمر قد لزم؛ قاله ابن شعبان.
وقال ابن القاسم: إن أمرَهما أن يحكما بالجزاء من المِثل ففعلا، فأراد أن ينتقل إلى الطعام جاز.
وقال ابن وهب رحمه الله في «العتبية»: من السنة أن يُخيِّر الحَكَمان من أصاب الصيد، كما خيّره الله في أن يخرج {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} فإن اختار الهدي حَكَما عليه بما يريانه نظيرًا لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عَدْل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي؛ وما لم يبلغ شاة حَكَما فيه بالطعام ثم خُيّر في أن يطعمه، أو يصوم مكان كل مُدّ يومًا؛ وكذلك قال مالك في «المدوّنة».